ملخّص
تأسست الحركة الطلابيّة الفلسطينيّة في جامعات إسرائيل داخل بيئة أكاديميّة معادية. لم ينخرط الطلّاب الفلسطينيّون في الإنتاج المؤسساتيّ للمعرفة في الجامعات، ولم يتطوّر أي إطار معرفيّ بديل مناهض للاستعمار ضمن الأكاديميّة الإسرائيليّة. هذه الظروف تركت الحركة الطلابيّة الوطنيّة مجرّد مرآة للأحزاب السياسيّة الفلسطينيّة التقليديّة في إسرائيل، تتبنّى مواقف الأحزاب التقليديّة بشكلٍ غير نقديّ. أدارت الأحزاب الحركة الطلابيّة على جميع المستويات، ما حرمها أي استقلاليّة فكريّة أو تنظيميّة، وهو ما لم يترك مجالًا لأي قطيعة رديكاليّة عن العمل السياسيّ التقليديّ. هذه العلاقة القويّة أضعفت أيّ توجّه ثوريّ معادٍ للصهيونيّة داخل الحركة الطلابيّة، وأدى لاحقًا إلى انهيار الحركة تدريجيًا.
يُمكن أن تُلخص تجربة الحركة الطلّابيّة الفلسطينيّة في الأكاديميا الإسرائيليّة بأنّها تجربة لبناء حركة طلّابيّة من دون وجود الجامعة؛ بمعنى أنّها حركة سياسيّة طلّابيّة لم تتجادل مع الانتاج المعرفيّ للمؤسسة الأكاديميّة، فُصِلت عنه، وبرأيي أنها لم تطمح حقيقةً للاندماج فيه، ولم يكن من الممكن أن تُنتج أطرًا معرفيّة ونظريّة بديلة. الظرف الاستعماريّ الصهيونيّ خلق حالةً يعيش فيها طلّاب تايلوريون، تنحصر حركتهم السياسيّة في التشكيلات التنظيميّة التي لم تنفصل البتّة عن التنظيم السياسيّ التقليديّ الفلسطينيّ في البلاد. بينما كانت الجامعة ذاتها، بتصميمها العمرانيّ وبالأيديولوجيا المؤسِسَة لها وبطواقمها الإداريّة والتدريسيّة وبأغلبيّة طلّابها الساحقة – كيانًا معاديًا وقامعًا للطلّاب الفلسطينيين. مؤسسة ترتص صفوفها وتنعدم اختلافاتها بشكلٍ شبه تام أمام تحرّك طلّابيّ ذي طابعٍ وطنيّ ثوريّ. هذه العوامل كلّها حوّلت العمل السياسيّ الطلابيّ إلى حركة وصلت ذروتها في تأسيسها، وهو ما يُمكن اعتباره، إن نتحلّى بالجرأة، إنجازها الوحيد. هذه العوامل والظروف فرّغت الفنتازيا اليساريّة الثوريّة حول الحركة الطلّابيّة من مضمونها في فلسطين، وحوّلت التجربة إلى آليّة دفاعيّة أمام فنتازيا أخرى: وهم الاندماج بالمجتمع الإسرائيليّ عبر بوّابته – الجامعة الإسرائيليّة.
فنتازيا حركات الطلّاب اليساريّة، التقليديّة المعروفة، وصلت في فلسطين إلى أفولٍ نهائيّ. وهذه السطور محاولة فلسطينيّة لمشاهدة هذه الفنتازيا، استعراض خطوطها العريضة، والإشارة باقتضاب شديد إلى مكامن اصطدامها وتحطّمها في الظرف الاستعماريّ الصهيونيّ. وبكلمات أخرى، قد يكون هذا رثاءً لمخيّلة ثوريّة عاشت وأحيَت وقد حان وقت دفنها، بحثًا عن خيالٍ سياسيّ جديد.
1
تُخلّف الحركة الطلابيّة فنتازيا مؤلفة من جانبين مركزييّن؛ من جانبيّ متاريس الطلّاب التي يتردّد صداها في التاريخ. من جهة، هجوم على العمل الطلابيّ الثوريّ، بموجات تتلاحق منذ ستة عقود، يقوده إعلام المؤسسات الحاكمة الذي يصيغ تصوّرات تشيطن التنظيم الطلّابي وتصمه بفزّاعات العصر – الشيوعيّة حينًا، والأناركيّة حينًا، وغيرها. تصوّر مؤسسات الدولة التنظيم الطلابيّ عبر إعلامها كتهديد محض للاستقرار والسلم الأهليّ، وتصوّر العنف جزءًا لا يتجزّأ من هذه الحركة. وسهّلت انتاج هذه الفنتازيا عوامل موضوعيّة (مثل الفئة العمريّة أو الطبقة الاجتماعيّة أو المقدرات المعرفيّة أو العوامل المؤسساتيّة الجامعيّة) التي تسبّبت بعزلة الطالب وصممت الجامعة باعتبارها قوقعةً.
لكنّ التوجّه المقابل والأهم لتصوّر الحركة الطلابيّة يأتي ويتشكّل من خلف المتاريس، وقد صدّر وحيًا ودافعًا حيويًّا لليساريين حول العالم لعقودٍ طويلة. فقد أنتجت الأدبيّات اليساريّة حول الحركات الطلّابيّة سحرًا صعب الإخماد. نشأ هذا السحر في الستينيّات ليحوّل فكرة الحركة الطلّابيّة إلى صورةٍ مهيمنةٍ في المخيال اليساريّ الثوريّ، ضاهت (وربما زاحمت) تصوّر البروليتاريا كطبقة ثوريّة.
جمعت هذه الصورة الثوريّة عدّة خطوطٍ متجانسة منحتها قوّتها: الهوس (fetish) بتوحّد البحث النظريّ بالفعل السياسيّ، وصولًا إلى قدرة التنظيم السياسيّ على إحداث أزمة في مدرسةٍ فكريّة (فرانكفورت مثلًا)؛ واستعادة الماركسيّة وبعث عنفوانها النقديّ، انتشالها من الستالينيّة وردّ اعتبارها في مواجهة تيّار البنيويّة الوظيفيّة؛ والتصوّر الأوديبيّ غير التاريخيّ لنضال الطلّاب باعتباره صراعًا بين أجيال و«-تمرّد الأبناء على آبائهم»؛ وتناول الجامعة كملجأ غواريّ مدنيّ للفعل الثوريّ، مثل استعادة نموذج كومونة باريس في الخطاب الطلّابيّ عام ٨٦٩١ مع احتلال مباني السوربون، أو رؤية رودي دوتشكه وهانس يورغن كرال في مؤتمر اتحاد الطلاب الألمانيّ الاشتراكيّ (٨٦٩١) التي طلبت تنظيم الطلّاب كمجموعات غواريّة تتخذ الجامعات ملجأ لها على أن ينطلق منها النضال ضد مؤسسات الدولة.
جزء جوهريّ من تجربة العمل الطلابيّ الفلسطينيّ يرتبط بلحظة دخول الطالب إلى الجامعة. إنها لحظة الخروج من المجتمع الفلسطينيّ المعزول بفعل الفصل العنصريّ العميق، والدخول إلى بوّابة «العالم الآخر»؛ إنها أوّل محاولة عيش في «إسرائيل» كما هي فعلًا: يهوديّة خالصة، روحًا وأيديولوجيا وديمغرافيا. تكون الجامعة في لحظة الاصطدام الأوّل هذه، حيّزًا سحريًا مبهمًا مغلقًا يتطلّب اكتشافًا. دخولنا فيها دخول محكوم بالرهبة اتجاه مجهول. أما فنتازيا الحركة الطلّابيّة، فشكّلت لعقود أداة يتصوّر الطالب الفلسطينيّ من خلالها دوره اتجاه هذا المكان المجهول وعلاقته به. مخيّلة تحدد الحواجز والأبعاد والعلاقات والاتزان بين الحاجة الحياتيّة والرغبة بالتقدّم الشخصيّ وتحقيق الذات، وبين المكانة الوطنيّة والهويّة السياسيّة. إنّ هذه الفنتازيا، بمجمل خطوطها التاريخيّة الفعليّة وبمجمل ما أُسقط عليها إعلاميًا وسياسيًا وفكريًا، خدمت كبوابة متماسكة تنتصب على مدخل الجامعة، يحاول الطلّاب (اليساريّون خاصةً) ترتيب أدوارهم من خلالها، وتزوّد القاموس واللغة المتوارثة والتقاليد المتعارفة في مجال العمل الطلّابيّ، وتُطلق المحاولة سيزيفيّة الجوهر لبعث وتثبيت العنفوان الثوريّ في الجامعة.
هذه الفنتازيا ماضية بالانهيار، ومعها الحركة الطلّابيّة، ولهذا أسباب موضوعيّة تتعلّق بالأساس في ديناميكيّة الأيديولوجية الصهيونيّة التي تُمعن تشكيل منظومة شاملة، خاصةً على الأصعدة الاقتصاديّة والتربويّة والثقافيّة، لاستبدال الهويّة السياسيّة الفاعلة للفلسطينيين بهويّة فولكلوريّة تبحث عن الاندماج في الهيمنة الاستعماريّة التي تسعى لتأبيد وجودها الغريب والعدوانيّ في البلاد. وبتنا بحاجة إلى تقصّي انهيار هذه الفنتازيا وفهم زوالها.
2
جميع الخطوط المؤلِّفة لهذه اللوحة متخيّلة تكاد تُمحى تحت الاستعمار الإسرائيليّ. إن مجمل الحالة الفلسطينيّة خاضع لحقيقة انعدام الانتاج المعرفيّ الفلسطينيّ ضمن الجامعة الإسرائيلّية. الطالب الفلسطينيّ ليس شريكًا، بأي شكلٍ من الأشكال، في انتاج المعرفة الأكاديميّة الإنسانيّة والاجتماعيّة. لا مساحةً في الجامعة الإسرائيليّة لبناء نظريّ فلسطينيّ أو اشتراكٍ فاعلٍ بالتنظير الإسرائيليّ، بحيث أن الأسس الفكريّة الأكثر جذريّة للبحث الأكاديمي الإسرائيليّ تتناقض مع أسس الوعي الفلسطينيّ. لا قدرة للجامعة الإسرائيليّة بالخروج على مبررات وجودها العنصريّة ونقدها – وهي ماهيّة النضال السياسيّ الفلسطينيّ. ولم يكن الواقع الفلسطينيّ -واقع المصادرة والمجازر والاحتلال والحكم العسكريّ الخ...- يتطلّب تحليلًا نظريًا لا لكشفه ولا لفهمه. الواقع الاستعماريّ لم يكن حالة جدليّة نظريًا، إنما كان تعسكرًا حادًا بين مستعمِرٍ ومستعمَر. وتنعدم فيه، بسبب طبيعة النظام الصهيونيّ، إمكانيّة التفكير بصالحٍ مدنيّ عام.
تُضاف على هذا أسباب عديدة، منها أنماط التعليم الفلسطينيّ، الموجهة بشكلٍ تام للقبول إلى سوق العمل الإسرائيليّ (بعد مصادرة الأراضي وسرقة الموارد وهدم الاقتصاد الفلسطينيّ التقليديّ)، وهو ما يخلّف نسبًا متدنية جدًا من الطلبة الفلسطينيين في دراسات الماجستير وأقل منها في دراسات الدكتوراة وأقل منها في التدريس والبحث الجامعيّ ما بعد الدكتوراة. لا تعامل مع الجامعة كفضاء حياتيّ قائم على صناعة المعرفة، إنما كمصنعٍ تأهيليّ، وبالتاليّ فقد بات النجاح الجامعي مرتبطا كذلك بقصر عمر التجربة الجامعيّة، وهو ما أنتج تبدّلًا سريعًا جدًا لشريحة الطلّاب (مع بقاء وتبلّد القيادة الطلابيّة «المحترفة» حزبيًا دون أي دورٍ فكريّ وبحثيّ). هذا إضافةً إلى الفصل الشديد بين حقول المعرفة وغيرها من المقوّمات التايلوريّة. وقد ساد التواضع الفكريّ الشديد في التنظير للعمل الطلّابيّ، وانعدام الحوار بين العمل الطلّابيّ والبحث الأكاديميّ، وهو ما أنتج حركة طلابيّة دون ميّزات فكريّة من حيث اتجاهاتها الفكريّة، وبالتالي ارتباطًا أشد بالاحزاب السياسيّة والتصاقًا بأدبيّاتها.
لم تكن الجامعة كمبنى فيزيائيّ أولًا، بأي شكلٍ من الأشكال وبأي مرحلة من المراحل، مساحةً آمنة ومحصّنة بالنسبة للطالب الفلسطينيّ يستطيع فيها أن ينظم حركته ويتمتّع بحريّة الاجتماع. نُظِّم العمل الطلابيّ من خلال تصاريح تمنحها الجامعة، وهي تصاريح ذات طابع سياسيّ وخاضعة لإملاءات سياسيّة ولمناورة خطابيّة من أجل الحفاظ على إمكانيّة عملها. الطابع القوميّ للصراع حوّل الجامعة، بإدارتها مجمعةً، بالأغلبيّة الساحقة من مدرّسيها ومعيديها، وبالأغلبيّة الساحقة من طلّابها، مجموعة معادية متربّصة تنظر إلى أي حراك طلّابي كخطر وجب قمعه الفوريّ. كذلك، فقد كانت الجامعة أصلًا، وهذا كان مصدر قوتها بالنسبة لأغلب العرب، حالة نقل من المجتمع الفلسطينيّ المعزول في القرى والمدن إلى المجتمع الإسرائيليّ. أي أن الجامعة كانت نوعا ما مدخلا للسوق الإسرائيليّ وبالتالي للمجتمع الإسرائيليّ، وبالتالي فإن النجاح فيها يعني أيضًا نجاحا في التساوق مع المجتمع المستعمِر.
3
وُجدت محاولات لتأصيل الحركة الطلّابيّة الفلسطينيّة في الداخل أو حتّى الحركات الشبابيّة باعتبارها صراع جيل «منتصب القامة» مقابل جيل خانعٍ. إلا أن استخدام هذا التحليل في فهم الحركة الطلّابيّة الفلسطينيّة يبقى أقرب إلى الوهم. فقد شغلت الحركة الطلابيّة دورًا مركزيًا في تعزيز السلطة الحزبيّة الكائنة داخل إسرائيل منذ النكبة، ولم تنفصل عن الشكيل الحزبيّ والتيارات المركزيّة التي وُجدت في فلسطين حتّى في فترة الحكم العسكريّ. الحركة الطلّابيّة كانت، بسواد تجربتها الأعظم، ذراعًا للسياسة التقليديّة تعززها وتتشرّب منها. إدارة الحركة الطلّابيّة كانت إدارةً حزبيّة على جميع الأصعدة وانعدمت أي استقلاليّة تنظيميّة وفكريّة، شبابيّة طلّابيّة لهذه الحركة. بقي الحزب هو المهيمن الأعلى على السياسة الطلّابية، ولم نشهد انفصالات جذريّة عن الأحزاب، وهو ما أدى بالحركة الطلّابية أن تحافظ على ذات منظومة علاقات القوى التقليديّة القائمة فيها.
أكثر من ذلك. في مجتمعٍ انعدمت فيه الأطر والدوائر لتشكّل القيادة عضويًا، مثل الجيش أو السوق أو الجهاز البيروقراطيّ، كانت الجامعة الإسرائيليّة هي الإطار الوحيد لتشكّل القيادة المستقبليّة. وقد تحوّلت الحركة الطلّابيّة مع الوقت إلى خط إنتاجٍ للقيادات الحزبيّة، وكان ذلك اعتبارًا مركزيًا في المنافسة السياسيّة، وأعاق ذلك إمكانيّة أن يرى التنظيم الطلابيّ نفسه تنظيمًا قائمًا بحد ذاته. واكتسب جزء كبير من القيادات الطلّابيّة مكانتهم في الحركة ليس نتاج فعاليّتهم وقدراتهم الفكريّة والتنظيميّة وإنما لما امتلكوه من قوة وثقة في الحزب المركزيّ. أي أن الشرعيّة القياديّة لم تكن مشتقة من قدرات الحركة ومكانتها، إنما من العلاقة بالحزب الوصيّ، أولًا وأخيرًا، وتآثيره على التشكيلات الطلّابيّة. وزادت هذه الحالة، وقد يكون هذا أخطر ما في الأمر، من التشدّد في تبنّي مواقف الأحزاب التقليديّة ورفض الخروج عنها أو نقاشها أو تغييرها. وهو منع بالتالي إمكانيّات تشكّل فكر سياسي مرتبط بالحركة الطلّابيّة.
4
يمكن اعتماد تفسيرات عديدة للحالة العدميّة التي تشهدها الحركة الطلّابيّة الفلسطينيّة في الداخل. وقد تُفيد هذه التفسيرات في محاولة بناء حركة سياسيّة مناهضة للصهيونيّة داخل الجامعات وربما، وهو الاحتمال الأقوى، من خارجها.
لكن الحقيقة أن هذه التفسيرات تستدعي سؤالًا تاريخيًا جدليًا، يتحدّى الخوض فيه قسطًا كبيرًا من شرعيّة القيادة السياسيّة الحاليّة للأحزاب الفلسطينيّة. الإجابة عن هذا السؤال، في سياق إمكانيّات العمل السياسيّ (طلابيًا أو غير طلّابيّ) من داخل المؤسسات الإسرائيليّة، من شأنها أن تُسقط أجوبةً تتحدّى أسس العمل السياسيّ في الداخل بكليّته: هل وُجدت أصلًا في فلسطين حركة طلّابيّة حقيقيّة، ذات سرديّة وأصولٍ تنظيميّة ومعرفيّة خاصّة، داخل الجامعات الإسرائيليّة؟